1-2
1867
قال "حسن عماد الدين النسيبي" في مـِرساله أنه تربى ونشأ بـِ سنواته
الأولى في مكان بدائي على هضاب الأناضول وسط صحرائها، متقلبة الطقس، وكان يعيش في
بيت من قش، تهلكه العواصف كلما نسمت، ولا يريد إلا أن يكافيء على السنوات الـ4
التي أضاعها من عمره على حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.. إلا أن يعيش حتى يموت في
تلك القرية بـ صعيد مصر.. لا ينشيء جيشًا، لا يزيد عدد حراساته، أن يعاقب كل من
تسول له نفسه من العبيد أو الرعاع بـِ التقول على الخديوي بـِ ما لا يصح، وأخيرًا..
أنه سـَ يكون عينه في قلب الصعيد، خشية وقوع أي تمرد ضد جلالته. في النهاية.. قـَبـِل
الخديوي تلك الصفقة، مع قراره الصارم.. ألا يغادر "حسن عمادالدين النسيبي"
ورفاقه القرية حتى مماتهم، واَعتبرها "حسن" صفقة عادلة.
في أواخر عهد
السلطان العثماني "محمود الثاني"، وبعد أن تم اِستنزاف الجسد التركي بـِ
مناوشات شمالية مع روسيا وأخرى غربية مع فرنسا وجنوبية مع اليونان.. سنة 1839
يستغل "محمد علي باشا" ضعف الدولة التركية ويقوم بـ مهاجمة مدينة "نسيب"
-أو "نزيب"- الشامية التي كان يغلب عليها الطابع التركي.. وكانت الموقعة
المعروفة بـِ اسم "معركة نسيب".. تلك التي اِنتصر فيها الجيش المصري بـِ
قيادة "إبراهيم باشا" على الجيش العثماني اِنتصارًا ساحقـًا، وانتهت
المعركة بـِ وقوع العديد من الأسرى في أيدي الجيش المصري.. وكان من بينهم حلاقـًا
تركيًا يدعي "عماد الدين النسيبي" ومعه ولده "حسن" البالغ من
العمر 10 سنوات وقتذاك.
كان الحلاق قد ترك
قريته النائية على هضاب الأناضول، لـ أجل البحث عن فرصة عمل أفضل، خاصة والدولة
التركية كانت قرب الانهيار الاقتصادي ومعظم ميزانيتها كانت تذهب لـِ صالح الجيش وأعمال
تسييره.. لم تكن هناك مهنٌ تدر دخلاً ذا قيمة إلا عبر المساعدة والتطوع في الجيش.
تم قبول السيد
"عمادالدين النسيبي" لـِ يكون مزينـًا خاصـًا بـِ جنود الجيش العثماني بـِ
بلدة "نسيب"، خاصة والرجل كان قد تخطى الـ40 عامًا، وجسده هزيل لا يصلح
للقتال.
المزين وقتها كانت
مهنة تجمع ما بين الحلاقة وممارسة الطب بـِ شكل بدائي، وأحيانًا متقدم (في القرن
الثامن عشر كان قد صدر مرسومًا في إنجلترا بـِ الفصل ما بين مهنتي الجراحة
والحلاقة لكن لم ينتشر هذا التقليد القانوني بـ كل دول العالم على أي حال في تلك
الحقبة وما بعدها..)
وقبل عام من موقعة
نسيب، كان "عمادالدين النسيبي" قد ذهب لـ اِستلام عمله الجديد التابع
للجيش العثماني -بـِ نفس مدينته التى نشأ بها ولم يهجرها أبدًا طيلة حياته- بـِ صحبة
عائلته المكونة فقط من ولده الوحيد "حسن"; بعد أن توفت زوجته إثر
مضاعفات الولادة اليتيمة.
وتم إدراج الصبي
"حسن" تحت مسمى وظيفي.. "مساعد حلاق".
الطفل "حسن
عمادالدين" كان على النقيض التام من والده..
جسده رياضي بـِ شكل
طبيعي، ذو قوة وبنيان واضحين، حد أنه يفوق والده طولًا وتكوينًا عضليًا رغم سنه الصغير
الذي لن تخمن حقيقته أبدًا، رغم نشأته على تغذية غير مناسبة لـِ طفولته. هيئته
كانت أكبر من عمره بـ5 أعوام على الأقل. كان ينتظر مرور بضع سنوات بـِ فارغ الصبر
كي يتم قبوله كـَ جندي مقاتل في الجيش العثماني أو المعروف وقتها بـِ الجيش الخامس
أو جيش آرابستان، لكن الرياح لم تأتِ كما تشتهي سفن الصبي. فـَ بعد أسره ووالده،
تم نقلهما مع باقي الأسرى إلى القاهرة.
في فترة الأسر..
يروى عن "حسن عمادالدين" أنه كان عنيدًا، أبيًا، ولا يحني رقبته لـ أحد.
فـَ عندما تعرض أحد الأسرى الشوام لـِ والده بـِ السخرية والاستهزاء، قام "حسن"
بـِ تحطيم رأسه بـِ يديه العاريتين في صخر متجملد، الأمر الذي قاد الحراس لـِ يضعوه
بـ الحبس الانفرادي لـِ فترة، وتكرر الأمر كثيرًا بعد دخول الصبي في مشاجرات عدة
مع المساجين والحراس، حتى تم بيعه لـ أسرة ميسورة الحال، لـ يعمل في البناء والمقاولة..
فور ما ادخر بعض
الأموال، نال عتقه، ودفع جزية أبيه; الذي خرج من سجنه لـِ
يعيش مع ولده ثانية.. هذه المرة في القاهرة.
وكانت تعليمات
"محمد علي" واضحة في الشأن العسكري.. اِستبيان كل من يمكن ضمه للشرطة
المصرية، ولو لم يكن مصري المولد.. فـَ سرعان ما تم ضم "حسن النسيبي"
أولًا لـِ قوة الشرطة بـِ العاصمة، وأبلى فيها بلاءًا حسنًا.
وفي الوقت الذي
عمل فيه كـَ شرطي محافظ على النظام العام (من ضمن القوة المعروفة بـ "الآمرين
بـ المعروف والناهين عن المنكر" -تلك التي أنشأها الوالي "عباس حلمي
الأول" الذي أراد مغازلة السعودية على عكس أسلافه-)، مات والده بـِ داء السل،
وقام الجندي الشاب بـِ دفن جثته في عاصمة وطنه الجديد.
وبعد.. تمكن من
الانضمام للجيش المصري.. حتى تم اِختياره ضمن قرابة 450 جندي -أغلبهم سوداني الأصل-
للسفر في الحرب الفرنسية المصرية المشتركة المعروفة بـ اِسم "حرب استقلال
المكسيك (1863-1867)" بـِ أمر من "محمد سعيد باشا"..
واجه "حسن
النسيبي" ورفاقه في تلك السنوات الـ4 ويلات ومصائب، وشهد مقتل العديد من
زملائه بـِ سبب الأمراض وغياب المترجمين، وأنقذ بـ نفسه حيوات آخرين من الجيش
المصري والفرنسي.. وأنشأ صداقات بينه وبين زملائه الجنود. ويـُروَى أن فرنسا قد عرضت
عليه أن تمنحه جنسيتها ورتبة عليا كي يقاتل تحت لوائها لكنه رفض، بعد أن تآخي مع
أقرانه من الجيش المصري.
ورغم استبسال
الجنود.. مات في تلك الحرب قرابة ثلث الجيش المصري المشارك.
عندما عاد "حسن
النسيبي" إلى القاهرة، كان "الخديوي إسماعيل" يعد حفل تكريم للجنود
الأبطال، لكن "حسن" فاجأ الجميع بـِ رفضه الذهاب إلى حفل تكريمه.. هو
وأربعة جنود آخرين، كان يقودهم بـِ جسارته في حرب المكسيك..
رغم أنه كان
مؤهلًا لـِ شغل رتبة كبيرة بـِ الجيش رغم سنه الصغير، وَورد إلى الخديوي أن
"حسن النسيبي" كان يقول أنه لن يقبل ثانيةً أن يكون عبدًا، ولن يقاتل من
أجل دولة أخرى لـ أجل علاقات دولية لن تفيد وطن بـِ قدر ما تفيد حكامه الذين يعيشون
مرفهين بينما الجنود المصريون يلقون حتفهم بـ سبب جشع وغرور الحكام، وهذا ما جعل "الخديوي
إسماعيل" يثور عليه، وعلم وقتها "اِبن عمادالدين النسيبي" أنه يجهز
لـِ أمر عزله من الجيش ثم اِعتقاله تمهيدًا لـِ مـُحاكمته بـِ سبب تقصيره في
الحرب!
لكن
"النسيبي" كانت لديه خطة..
كان قد قرر -بعد
أن أقنع 4 من أصدقائه الجنود ممن كانوا معه في الحرب الفائتة وتخلفوا معه عن حفل
التكريم- الهرب بعيدًا عن بطش الخديوي..
وفعلها..
هرب "حسن النسيبي"
مع رفاقه بـِ أسرهم وخدمهم..
لم يكن الهروب
خارج البلاد سهلـًا، فـَ كان الحل أن يختبيء ورفاقه من بطش الخديوي داخل البلاد..
وكانت الوجهة هي
أكثر قرية آمنة يمكنهم السيطرة عليها في جنوب مصر..
وصل موكب الجنود
إلى اِحدى القرى.. كانت آخر قرية قبل مدخل إحدى مديريات الصعيد.. والتي كانت
معروفة ضمنـًا وقتذاك بـ اِسم "قرية العبيد".
كان يحكمها عمدة
تركي، لا يتحدث العربية ويعامل أهلها أسوأ معاملة، لا يفعل شيئًا إلا أن يجلس
أمامهم بـِ الكرباج وهو يقتات من خيرهم وعرقهم ودمائهم..
قام
"حسن" ورفاقه بـِ قتله هو وحرسه دون أية خسائر تذكر في أرواح الموكب
الهارب، وبعد.. قاموا بـِ طرد الأعيان الخاملين بـِ حراساتهم. وأخبر "حسن"
أهل القرية أنه سـَ يـُحسن إليهم طعامهم ومساكنهم.
وما لبث أن استقر
في القرية الصغيرة جدًا، ووضع يده عليها، وقبل أن تصل أخباره إلى "الخديوي إسماعيل"،
سبق "النسيبي" بـِ أن أرسل إليه رسولًا من العبيد بـِ رسالة ملأى بـِ
الاعتذار والإجلال والتقدير.. وقبل الخديوي اعتذاره شرط عدم مغادرة
"النسيبي" للقرية..
لكن لم تستقر
الأمور بعدها..
يروى أنه سرعان ما
بدأت بوادر اِنقلاب تظهر ضده من تحالف 3 جنود ضمن فريقه الرباعي، بعد اِنتهاء
تقسيم القصور فيما بينهم.
أشيع السبب على
أنه كان الوحيد من بينهم الذي لم يكن مصري المولد..
كانوا يقبلوا
قيادته وقت الحرب أما أوقات الدعة، فـ لابد أن تنجلى المطامع البشرية..
يخبرون أهالي
القرية في نوبات السكر أن مكان "حسن عمادالدين النسيبي" الصحيح هو مع
العبيد، ولا يوجد ما يميزه عنهم إلا بشرته البيضاء، لكن القشة التي قصمت ظهر
البعير تكونت حين حاول الثلاثة المنشقون توريطه في حركة تمرد، تخل بـِ شرطه مع
الخديوي..
كانوا يريدون أن
يكونوا جيشًا صغيرًا من عبيد وفلاحي القرية والاستعداد لـِ غزو قرية "آل حجاج"
المجاورة.. بـِ شكل يخل بـ اِتفاقه معهم قبل الهرب..
وكان من يبلغ
"حسن" بـِ تلك الاجتماعات السرية المغلقة هو صديقه المخلص الوحيد له من
بينهم، "أحمد آدم المهدي"..
الذي كان لا يعلم
عنه باقي الجنود أنه فارسي الأصل والمولد.
يرسل
"حجاج" رسولًا إلى "حسن" لـ اِستبيان موقفه من تلك الاجتماعات
الثلاثية التي وصلته أخبارها، ورغم أن الرسالة بها تهديد واضح لـ "النسيبي"
إلا أنه قرر زيارة "حجاج" فجرًا في السر ومعه صديقه الوفي "أحمد
آدم المهدي"..
يقوم "حسن"
و"أحمد آدم المهدي" -بـِ الاستعانة بـِ حراسة "حجاج" الخاصة-
بـِ التخلص من الجنود الثلاثة، هم وحراستهم.. وكانت خسارة فريق "حسن" في
الأرواح تتمثل في مقتل اثنين من فلاحي "آل حجاج"، ومصرع صديقه "أحمد
آدم المهدي"، وهو ينقذه من طلقة سلاح كادت تخترق قلبه.
"حسن النسيبي"
يأمر بـ تعويض "آل حجاج" بـِ أرامل وأملاك الجنود الثلاثة، ويقيم ضريح
هائل لـ صديقه "أحمد آدم المهدي".
ينتظر بضعة أسابيع
قبل أن يتقدم لـِ طلب يد باهرة الحسن والجمال، السيدة "تشكر المصري" أرملة
صديقه "أحمد آدم"، وقبلت السيدة الزيجة بعد أن وعدها أن يعامل ولدها
الطفل "المهدي أحمد آدم" كأنه ولده.
وبعد عامين من
الزواج.. أنجب منها "آدم" الذي ورث هيئة أبيه وبياض بشرته الجلي. وكان
اسم المولود تخليدًا لـِ ذكرى وفضل صديقه السابق على حياته. وقتها أطلق "حسن"
على القرية اسم "قرية ولاد حسن عمادالدين النزيبي".. الاسم الذي حرف
وكثف مع مر الزمان إلى "قرية ولاد نسيب" وصار أبناء القرية معروفين
بـ"النسايب" وعلى الأخص العائلة المؤسسة.
قام
"حسن" بـِ وضع قوانين للـ قرية لا تتعارض مع القوانين الخديوية، واَهتم
بـِ الزراعة والتجارة والبناء. وعاش تقريبًا دون حراسة تذكر، كانت هيبته وحب
العبيد والفلاحين له -الذين يجزل لهم أجورهم بـِ شكل أفضل من حكامهم السابقين-
ودروس التاريخ التي حاقت بـِ الخونة أقوى من أية حراسات.
أنجب "ابن
النسيبي" بعد "آدم" العديد من الأطفال، جميعهم كان يولد ميتًا لـِ أسباب
صحية مجهولة، ولم يشأ أن يتزوج على زوجته بنت الأصول حتى لا يجرح مشاعرها، ناهيك
أنه كان متيمًا بها..
كانت تكبره بـ5
أعوام، ولم يكن يحرك حجرًا ساكنًا بـ القرية إلا بعد مشورتها.. لكن بعدما وافتها
المنية في شيخوختها، سرعان ما كان لديه أكثر من 10 جواري كـَ محظيات أو ملك يمين..
وهو كهل في الـ70.
كان قد قام بـِ
إعادة ترميم قصره القابع فيه هو وولده واِبن زوجته، وأنشأ حوله ساحة ضخمة بها دوار
يضايف فيه الأغراب وكبار القرى المجاورة، وقام بـ تزويج اِبنه "آدم" لـ
"أشواق" اِبنة "حجاج" من القرية المجاورة المسماة على اِسم
كبيرهم (آل حجاج) والتي عرفت فيما بعد بـِ قرية "الحجايجة". وأنجب
"آدم" أول أحفاد "حسن عمادالدين" سنة 1898.. "أحمد آدم
حسن النسيبي"، حيث كان "آدم" قد فـُتـِن من رواية والده لـِ أخبار
وبطولة صديقه المضحي الراحل، فـَ قرر تخليد اِسمه بـِ الكامل على ولده أيضًا.
من بين كل
المحظيات اللاتي كن ضمن حريم العجوز، كانت ذات الأصول الأفريقية الوسطى
"مسعدة" هي المفضلة لديه، وهي الوحيدة –بين الجواري- التي فوجئوا بـِ
انتفاخ بطنها..
وأنجبت
"نوح" في مطلع القرن العشرين، الذي كان نسخة طبق الأصل من أمه بـِ ملامحها
السمراء وأنفها وشفتيها المغلظة، لم يرث شيئًا عن ملامح أبيه الذي كان فـَرِحًا
بـِ قدومه بـِ ما لا يوصف. أطلق عليه اسم "نوح" بعد أن نصحه أحد المشايخ
أن يدعوه بـِ اِسم أطول الأنبياء عمرًا كي تكتب له السلامة والنجاة.
كان "حسن
النسيبي" وقتذاك" قد تخطى الـ70، واِبنه الأول يكبر اِبنه الثاني بـ30
عامًا، وحفيده الوحيد حتى الآن -"أحمد"- يكبر اِبنه الثاني بـِ عامين!
*فصل من رواية "النسايب"